محسن الأكرمين.
ينتهي زواق منصات أنشطة مهرجان وليلي الدولي لموسيقى العالم التقليدية بليلة (ستاتية) لصيقة مع ذكرى المولد النبوي !! حقيقة تاريخية منذ البداية، أن مكناس لم تحسن اختيار مهرجاناتها في (الزمن/ المؤشرات/ الأثر/ البعد الثقافي/ البعد السياحي...) إلا بالقلة القليلة. لم تحسن حتى ركوب أحصنة سياسة التطوير والتجديد، ولما لا العمل على تطوير موسم الشيخ الكامل (التراث والتقليد) إلى موسم ذي جودة وجاذبية في تسويق الموسيقى التقليدية، والسياحة الروحانية.
ففي ذكرى المولد النبوي الشريف تُمسي مكناس المحجَّ الذي ُيقصد للزيارة وإحياء موسم الهادي بنعيسى. كانت المدينة بحق تستقبل أكثر بكثير ممَّا يزور الملتقى الدولي للفلاحة حينذاك. من غريب الصحوة أن المدينة ضيعت جزء من تراثها اللامادي، حين كان بإمكانها تطويره وتنظيمه وتشذيبه من تلك المعتقدات الدخيلة.
مكناس تعتز بأنها مدينة السلاطين والأثر العمراني التاريخي. تعتز بأن تربتها احتوت مراقد من أولياء الله الصالحين. فقد كانت المدينة قبلة في موسم الهادي بنعيسى (المِيلودْ يَلاقِينِي بِأحبابِي)، وهي الميزة التي افتقدتها مكناس ضمن التحولات الاجتماعية (النووية) المتسرعة، وغير المتصالحة مع الأثر المادي واللامادي للمدينة.
كان من العشق النقي، ونحن صغار السن، انعقاد الموسم الكبير. فكل الاتجاهات كانت تؤدي إلى متسع ساحة الزويتينة، والفسحة الأمامية لضريح الشيخ الكامل. (الزويتينة/ منتزه الرياض) التي باتت اليوم تشبه (دار الورثة) المهملة !! كانت بحق الله مُتسعا يضم تنوعاتنا الاجتماعية والاثنية، فلا فروقَ اجتماعية، ولا نوعية غير الاستمتاع بالفرجة البسيطة، وبدون منصات لتحريك الأجساد، وملونات الصوت والصورة !! كانت الفروسية (التبوريدة) تجري بسليقة العفوية والطبع، فلا لباس بذخ وترف وغنج من التَّطبع، ولا سروج مزخرفة، ولا مكبرات صوت عند (مقدم) السربة، بل كان للفرس الأمازيغي المكتنز، والخيول العربية النحيفة حاضرة بساحة الفانتازيا «Phantasia»، والبارود يدوي (الحبة والبارود مِنْ ظْهَرْ المَخْزَنْ). وكانت الفرجة (الفولكلورية) حاضرة بالتمام في مضمار (الزويتينة) من خلال مجموعة من الفنون الغنائية الشعبية التي تتغنى بالسربة، وقد تمتد إلى محيط المتفرجين بالمشاركة.
كانت المجموعات المشاركة تتنافس فقط في نوعية الذبائح، وعلو الخيمة، ومدى استقبالها لأكثرعدد من الزوار. كانت قبائل كل من (بني امطير) و(كروان) و(أولاد نصير) و(مجاط) و(بني امكيلد) وأفخاذ قبيلة (ايركلاون)، ومتنوع من قبائل ( زيان)، ومتنوع من قبائل (زمور) … في صنف الواجهة الأمامية الموالية للسور الإسماعيلية (بالزويتينة) .
في أيام الموسم، كنَّا نلهو مع (مُتُورْ الخطر)، مع مسرح بلا ماكياجات ولا دعم من المال العام (امرأة بلا جسد)، ومع (مُولْ الخِيط ْ وحط أُصبعك)، مع حلقات الفكاهة الشعبية، مع (جَرَبْ صِحَتَكْ وَطَرْطَقْ الفَرْشِيَّةِ)، ومع ألعاب متنوعة وبسيطة من (لاَفْوَارْ/ الملاهي). كانت غايتها اللعب والترفيه، والمشاركة في تنشيط حركية الموسم.
في متسع ساحة الهديم كانت تتوافد الطوائف من كل المدن، ومن أحياء مكناس العتيقة (القصبة / الزيتون/ سيدي عمرو/ تواركة…) ، وتتقدم هدية الملك المليحة كل الوفود الزائرة. اليوم باتت مكناس تُفكر ثانية في مهرجان للفن العيساوي، فلما لا يتم استغلال أيام الموسم وتحويله إلى مهرجان حديث منظم بمسيرات الفرجة الشعبية، ومنصات كبرى للعروض؟ لما لا يتم استغلال القيمة التطوعية للطوائف العيساوية الوطنية وإتيانها إلى الموسم بصفر درهم؟ قد نقول: إن العقل بمكناس بات في أزمة تفكير مستطيل بين الارتداد نحو المعيارية والبحث عن (الغنائم)، وبين التحديث والاستهلاك المفرط لأوجه الحداثة (البعدية) و(النزق الثقافي)!!
هي مكناس التي جعلت من ساحة (الزويتينة) حديقة مهجورة (لا هي امْزَوجة بالفرجة !! ولا هي مطلقة بالنزهة !!). نعم، مكناس تسير وفق نمط تفكير وهندسة (الياجور)، تسير وفق استغلال خيراتها باعتبارها (بقرة حلوب) تُنتج (البيض الذهبي) في سياسة الريع (حلال) الثقافية وغيرها !!
في الطريق الممتد بين الولي الصالح سيدي سعيد ومرقد الشيخ الكامل، كانت تنتصب الخيام التجارية والمطاعم الشعبية. داخل ضريح الشيخ هناك زيارات منظمة تتم بإشعال الشمع، وتقديم الهدايا العينية والذبائح المليحة، وتنتهي بالدعاء الجماعي من قبل حفدة الشيخ، والشرب أو الاغتسال من بئر الضريح (بفكرة نَيْلِ صك الطهارة والغفران).
قد أُخَالِفُ القوم، وأقول أننا افتقدنا موسما بقيمة مهرجان تراثي يُسوق للمدينة بعينها لا لأشخاص، ويُحرك القيمة التداولية المالية، وبلا منبهات البذخ والترف. أن (علماء ) الثقافة والسياسة بالمدينة لم يقدروا البتة على تطوير آليات الاشتغال على مُنتج وتراث الثقافة الشعبية اللامادية، واستغلال فرجة الموسم المجانية.
اليوم بتنا نماثل المعول الناسف لكل أثر تاريخي عتيق، ويختلط علينا الفرز بين (الموسيقى التقليدية) و(الموسيقى الشعبية) !! وبمعيارية تبعد عن الثقافة الاجتماعية المستقرة بالمدينة منذ الأجداد والسلف الصالح !! كل المدن العالمية باتت تُسوق حتى أقساط من الخرافة الشعبية لأجل الجذب السياحي وصناعة الفرجة. كل المدن تسترجع تراثها الماضي لخدمة المستقبل بكل أريحية، إلا مكناس فهي تلعب لعبة (القط والفأر) مع التراث بانتقائية غير مُيسرة في التثمين اللامادي.