أهدي هذه القصة الى الأحبة في ورزازات وزاگورة بمناسبة أمطار الخير والبركة التي تهاطلت هذه الأيام.
البقرة المقدسة
ولد عزيز ( ترابي البرج ) قرب دار نوگليد (قصر السعديين) عام الحالمين من أب اسمه ابراهيم بلقاسم لمرابط.
كانت ولادة عزيز في غياب والده الذي كان على سفر تجاري ببلاد أگرام.
ابراهيم بلقاسم تاجر الأبقار ورث التجارة عن والده بلقاسم لمرابط الذي كان يملك (بابور البر) منذ العام الذي بنيت فيه (القشلة) .
المنزل الذي خلق فيه عزيز بني على طابقين وكانت أسقفه الثلاثة بخشب النخيل والقصب ورصت جدرانه بالتراب والثابوت. كان المنزل كبيرا يشمل دار النساء ودار الرجال ودار الضيوف ( القبة ) وغير بعيد إسطبل البهائم . المنزل بني زمن معركة إيسلي، وكانت درعة يومها ضمن بلاد ( السيبة ). كان المنزل يبعد عن وادي درعة بنصف فرسخ ويبعد عن زاوية سيدي أحمد بناصر بثلاثة فراسخ، ولذلك كلما هبت رياح الجنوب تأتي ب ( دكار ) تمگروت ليلقح نخيل تامغيلت المجاور لحوش نوگليد.
في إحدى السفريات التجارية لابراهيم بأحد الأسواق الأسبوعية التي اعتاد أن يتاجر فيها، وبينما كان في مقهى السوق يأكل شواء لحم البقر وشاي وخبز لفت انتباهه رجل أسمر يقبض على بقرة ضخمة البنية وغريبة الشكل، وكلما اقترب منه مشتري إلا وغادر سريعا دون أن يشتريها.
بعدما انتهى ابراهيم من وجبة الغذاء وصلى الظهر، كان صاحب البقرة الغريبة لايزال يعرض بقرته للبيع. ذهب عنده ابراهيم وسأله لماذا البقرة غريبة؟ وكم ثمنها ؟ فأجابه أنها من بلاد الهند وأن شرطه لبيعها هو أن لا يذبحها المشتري لأنه إن هو ذبحها سيصاب بيته وأهله ببلاء ما. وبعد أن تأكد ابراهيم من البائع أن البقرة ولود وحلوب اشتراها منه مع وعد له بأنه لن بذبحها.
لما عاد ابراهيم من سفره ومعه البقرة العجيبة. فرح بولادة ابنه أيما فرح وأوصى والدته خيرا بالبقرة، كما أوصاها أن يكون أول من يشرب حليبها قبل الجميع هو ابنه الرضيع عزيز.
أصبح عزيز شغوفا بحليب البقرة هند، ولما أصبح طفلا يمشي على رجليه، كان كلما استيقظ صباحا يجري قاصدا جدته كي تحلب له حليبا من هند، وكان يشربه دافئا مباشرة بعد حلبه.
كانت هند تأكل كثيرا من البرسيم، وكانت تلد عجلين بعد كل حمل، ومنذ أن دخلت فزواطة أصبح الخير أكثر فيضا على العائلة والبهجة والسرور تعم كل أفراد العائلة، وكانت هند تخور خوارا قويا ومتتابعا كلما مرض الطفل عزيز أو وقع له أي مكروه .
كان وادي درعة يشق فزواطة من أقصاها إلى أقصاها، وكان النهر نهرا هادرا، ولم تكن هند تشرب ماء غير مائه ولم تكن تأكل برسيما غير البرسيم الٱتي من تمغيلت التي تسقى بماء درعة.
بدأ الطفل يكبر وتكبر معه شقاوته، وفي يوم من الأيام وبينما نساء البيت منشغلات بأمور ما وهو يلعب مع إخوته وكان مكيال الزرع ( العبرة ) بجانبهم. قفز عزيز الى وسط المكيال واستهواه أن يقوم بتحدي أن ينكمش داخل المكيال، ربح التحدي لما طوى رجليه ويديه وادخل رأسه تحت القضيب الحديدي للمكيال.
بعد لحظة حاول عزيز أن يخرج من المكيال ولم يستطع فتألم وخاف وبدأت أنفاسه تتلاحق وحينها بدأ يصيح تماما في الوقت الذي سمع خوار هند. جرت الجدة لتتفقد حفيدها العزيز عزيز فوجدته عالقا بالمكيال ونساء البيت يحطن به ويحاولن إنقاذه ولم يتمكنن إلا بعد أن استعملن ( الصابون البلدي ).
كثرت مغامرات الطفل وبعد زمن من حادثة المكيال وبعد ظهيرة يوم جميل وبينما كان جميع أفراد العائلة في جلسة شاي بصالة الضيوف ( القبة ) كما يسميها الدرعيون، تسلل عزيز الى فناء المنزل ( الرحبة ) ثم إلى حجرة المؤونة ( بيت لخزين ) وكان بابها غير مغلق بالمفتاح، دفع الباب ودخل، كان ببيت لخزين خواب كثيرة مدفونة في أرضيته ومليئة بالسمن والقمح والتمر والفلفل الحار وغيره. كانت الخابية التي قرب الباب هي الأصغر وكانت فارغة وغير مغطاة.
وضع عزيز يديه على طرفي الخابية ودلى رجليه الى داخلها دون أن تبلغا القاع لأنه أطول منه كثيرا ولعب للحظات الى أن تعبت يداه وفشلتا فسقط في قاع الخابية.
كان البيت مظلما والخابية أكثر ظلاما فارتهب عزيز وبكى وصرخ بأعلى صوته ومن اسطبلها تجاوبت معه هند دون أن ينتبه شاربوا كؤوس الشاي المنعنع للأمر.
بعد اليأس استسلم عزيز للنوم وهو جالس القرفصاء داخل الخابية.
انتهت جلست الشاي الطويلة على عادة أهل الصحراء فلم يجدوا عزيز، نادوه ولم يجب فأسرع الرجال مندفعين الى خارج البيت للبحث عنه بينما النساء تفرقوا يتفقدون أركان الدار الى أن وصلوا الرحبة (فيناء المنزل) وملؤوه ضجيجا فاستيقظ الطفل وبدأ يناديهم بأعلى صوته فهبوا لنجدته.
بدأ يكبر الطفل وبدأ يكتشف العالم الخارجي. وفي عشية أحد الأيام كان أطفال ( لگصر/القصر) يلعبون ويمرحون، من لعبة الغميضة الى لعبة (دنيفري)، وبينما هم على ذلك الحال قرب مسجد لگصر الذي أمامه شجرة النتل وهي ملأى بطيور مغردة، حمل عزيز حجرا وقذف به الشجرة بعشوائية قاصدا اصطياد الطيور، سقط طائر من نوع (طيبيبط) ميتا. صفق بعض الأطفال على عزيز تشجيعا له على بطولته. انتفخ ريش الطفل ولم ينكمش الا بعد أن ضربه أحد الأطفال بقصبة على وجنته مباشرة تحت عينه اليسرى. سال دم عزيز وبكى من حر الألم، وفي الحال تدخل حسن أخوه الأكبر منه وضرب صاحب القصبة بلكلمات متتالية على وجهه الذي انتفخ بعد حين، تعالى صراخ الأطفال وأصبحا فريقين متصارعين. سمع رجال القبيلة صراخ الأطفال وكانوا مجتمعين بفم لگصر (سقيفة ايت بلقاسم)، فهب بعضهم مسرعا. فضوا اشتباك الأطفال ولما بحثوا عن أصل المشكل ومن الظالم ومن المظلوم.
قال عزيز أن فلانا ضربه بقصبة تحت عينه وكان لازال يتألم ألما شديدا، فقال الطفل صاحب القصبة أنه ضرب عزيز الذي اعتدى على حرمة الطائر لمرابط/الشريف الذي يجلب بشائر الخير للعالم وقد ضرب من قبل حسن ضربا مبرحا.
تم اصلاح ذات البين بين الأطفال وأدخلوا الى منازلهم. طويلة المشاجرة لم يتوقف خوار هند ولم تتوقف الا بعد أن دخل عزيز وحسن الى الدار.
مرت شهور وجف وادي درعة من سريان الماء وبقيت فيه فقط برك ٱسنة.
انقطع ماء النهر عن تمغيلت ولم تعد تنبت برسيما.
هند لم تعد تود أكل البرسيم ولا شرب الماء.
جفت أشجار التين واللوز والرمان والمشمش من الحقول، ولم يعد هناك إنتاج للحناء والبرسيم، وحده النخل ظل صامدا لكن إنتاجه قل.
لم يعد بإمكان ابراهيم تسويق تمور زاگورة بباب دكالة ولا بإمكانه بيع أبقار بلاد أكرام بتامگروت لذلك أشار عليه أصدقاؤه بتغيير تجارة الأبقار بتجارة الحمير.
أخذ ابراهيم مهلة للتفكير، وفي تلك الأيام العجاف أصيبت بنته الصغرى بمرض حبيبي ملأ كل جلد جسمها حتى أنه كاد يغلق عينيها، في حين أن عزيز لم يعد يجد حليبا يشربه لأن هند لم تعد بقرة حلوبا وهو لا يشىرب سوى حليبها، في تلك الأثناء فقط قرر أبو العائلة ابراهيم أنه لن يتحول نهائيا الى بائع حمير، وأنه سيغادر بلاد درعة ولن يعود اليها إلا إذا عاد النهر لسابق هديره وتعود رياح تمگروت لهبوبها المعتاد.
باركت أم ابراهيم قرار ولدها، وفكر الرجل في الوجهة المناسبة فما وجد أفضل من بلاد شالة غير بعيد عن مصب نهر أبي رقراق الذي ظل رقراقا على الدوام يحلي ملوحة بحر الظلمات رغم توالي سنوات القحط.
عولجت البنت الصغرى من المرض الحبيبي.
اشتغل ابراهيم بلقاسم عند رجل يدعى شمعون يصنع مشروبا سحريا ياتي بعشبته من بلاد العم سام، أما عزيز فقد التحق بكتاب الشيخ سيدي العربي بن السايح ووجد الطلبة متقدمين في حفظ القرٱن الكريم إذ بلغوا سورة البقرة، برع عزيز في حفظ القرٱن، وفي أحد الليالي وهو ينام نوما هادئا حلم قبل الفجر برجل يركب تنينا ويلبس ثوبا أحمر يناوله قدح حليب. أخذ عزيز القدح وشرب حتى ارتوى قال له راكب التنين إنك من المبشرين بعصر الغوغاء الذي يحكمه الرعاع بيد من مطرقة ومنجل.
القصة للكاتب ( كتبها) : الدكتور *محمد شخمان*
توضيحات :
- أگليد : السلطان
- أگرام : لمرابط/الشريف.
- بابور البر : الشاحنة.
- القشلة : ثكنة عسكرية بنتها فرنسا سنة 1940 وهي من أصبحت مركز مدينة زاگورة.
- تاريخ معركة إيسلي هو 1844.
- عام الحالمين : المقصود به في القصة 1970 ويرمز لأشياء أخرى.
- تمغيلت : أحد حقول/ضيعات عشيرة أيت بلقاسم
- بلاد السيبة : البلاد التي انفلتت من الحكم المركزي للدولة.
- الفرسخ : خمسة كيلومتر.
الدكار : ينتجه ذكر النخل وتلقح به النخلات.
- العبرة : مكيال يحمل 16 كيلوغرام من الزرع.
- لگصر/القصر : قصبة تسكنها قبيلة أو عشيرة وتكون محاطة بأسوار ضخمة وأبراح للمراقبة وأبواب تغلق ليلا.